حتى " الشيطان الأكبر" يمكن إبرام اتفاق معه |
الكاتب: ناصر محي الدين ناجي nmnaji@gmail.com 15/07/2015 |
من حقّك أن تعجب؛ لكن الأمر قد أعلن وقد يصبح حقيقة بعد حين، وما شهدناه بالأمس قد حصل منه الكثير في التاريخ القديم والحديث وسيحصل مثله في المستقبل وسيتكرر ما تعاقبت الأجيال، وما بقي التنافس والصراع قائمين بين الأمم والشعوب. التفاوض أحد المسارات الأساسية لحل الخلافات والمنازعات ولإحقاق الحقوق ودفع المظالم أو رفعها، وقد يكون هدفاً مرحلياً يسعى إليه المتخاصمون، وربما نشأت الحروب من أجل الوصول إليه، هو كأي مسار آخر له نهاية وسيفضي إلى اتفاق أو عدم اتفاق، فلا غرابة في أن نسمع بحصول اتفاق هنا أو هناك، أو بوجود عملية تفاوض مستورة أو معلنة.
التفاوض شكل من أشكال الصراع يتمخض عنه غالب ومغلوب، وحجم الانتصار تحدده النقاط المسجّلة، وشرف البطولة والانتصار هذا يدّعيه طرفا هذه العملية؛ حتى الضعيف فيهما يسمى بطلاً لأنه قد منع عن نفسه أو جماعته أو بلده الأسوأ، وبتعبير آخر؛ الفائز هو من أخذ أكثر ودفع أقل أوهو من تجنّب الأسوأ وحافظ على الباقي الموجود. التفاوض قضية تحوم حولها الشبهات لدى كثير من أبناء مجتمعنا العربي على اختلاف مشاربهم وتنوّع أفكارهم، وإذا ما أُعلن عن اتفاق رأيتهم بين رافض ومشكك أو من يرى أن ما أعلن هو غيرالحقيقة أوجزء منها. سبب انتشار هذه الآراء وعلى نطاق واسع؛ هو أنه ليس في ذاكرتنا كشهود أحياء وليس في ما نقرأ أو نسمع مما كتبه أو قاله آباؤنا وأجدادنا الأحياء منهم والأموات عن عملية تفاوض جرت في زمانهم أو زماننا، جلبت خيراً لأمتنا أو رفعت ظلماً عنها أو أرجعت حقاً لها أو أوقفت عدواناً عليها... لذا كانت الصورة المنطبعة في الأذهان هي هذه: (التفاوض مع الخصم والعدو خيانة).
والحقيقة أن المشكلة ليست في التفاوض نفسه، المشكلة فينا نحن، في قصور فهمنا للواقع وعجزنا عن إدارة الصراع بالشكل المناسب. التفاوض عملية شائكة قد تضطرك إلى دفع أثمان باهظة أحياناً وإلى حين؛ لكن من يمتلك الواقعية والإرادة يمكنه أن يجعل من ذلك الثمن نقطة تحوّل؛ فها هي اليابان بعد قنبلتي هيروشيما وناكازاكي يومي 6 و 9 آب سنة 1945 وبعد قيام الاتحاد السوفياتي السابق يوم 14 من الشهر نفسه بإعلان الحرب عليها واحتلاله لمنشوريا، تقبل شروط قوات الحلفاء وتستسلم دون شروط. وفي الخامس عشر من آب من العام نفسه وجّه الإمبراطور الياباني خطاباً إذاعياً إلى شعبه جاء فيه:( لا يهمني ما سيحدث لي شخصياً، لكنني أريد النجاة لجميع رعاياي).. وأنه قبل بشروط الحلفاء (من أجل إنقاذ اليابان من الدمار التام).
وفي مثل هذا اليوم يحتفل الحلفاء بانتصارهم على اليابان، ويحتفل اليابانيون بانتهاء الحرب. الواقعية والإرادة الصادقة كانتا وراء قرار الاستسلام هذا مراعاة لمصلحة اليابان ولمستقبل اليابان، والإرادة الصادقة هي التي حوّلت اليابان من بلد مهزوم مستسلم إلى عملاق أدهش العالم بصناعاته وتقنياته. هي الواقعية ذاتها ألجأت قائد الثورة الإيرانية ومرشدها الأول الإمام الخميني إلى القبول بوقف إطلاق النار مع العراق سنة 1988 والذي كان بمثابة الإقرار بالهزيمة والعجز، ومما جاء في رسالته إلى الشعب الإيراني: ( لقد أقر مسؤولونا العسكريون وقادة الجيوش والحرس الثوري وخبراؤنا العسكريون وقادة الجيوش، أن جيش الإسلام لن يكون بمقدوره تحقيق النصر السريع، وبناء على رأي المسؤولين العسكريين والسياسيين لجمهورية إيران الإسلامية؛ فإنه من الآن فصاعدًا لن تجري بأي حال هذه الحرب لصالح دولتنا... ...وبعد الاطلاع على استخدام العدو الكثيف للسلاح الكيماوي، وعدم قدرتنا على مواجهته فقد اتخذنا قرارنا بوقف إطلاق النار... ...أيها الأعزاء ، إنكم تدركون أن هذا القرار بالنسبة إلي إنما هو بمثابة تجرع كأس السم، ولإرضاء الله تعالى وصيانة دينه، والمحافظة على الجمهورية الإسلامية وكرامتها أقدمنا على هذا الأمر).
الإرادة الصادقة هي نفسها مكّنت إيران وخلال سنوات قليلة من ضم عدو الأمس - وأعني به العراق تحت جناحها *، وهي التي استمالت الشيطان الأكبر وحلفاءه للجلوس معها فكانت الواحد مقابل الستّة الكبار واستطاعت بالتفاوض أن تحقق بعضاً مما تريد أو كل ما تريد.
قد تضعف قواك حيناً وتُغلب، وقد تضطر إلى دفع أثمان باهظة واتخاذ قرارات صعبة، لكن إن كنت تملك الواقعية والإرادة فستغيّر حالك وسيشعر خصمك بالقوة الكامنة فيك وسيحسب لك حساباً في أي جولة من جولات الصراع ومنها التفاوض.
لا أقول هذا إعجاباً أو انبهاراً بأحد، إنما متحسراً على غياب الواقعية من حياتنا، على عدم امتلاكنا لإرادة صادقة أمينة، وبغيابهما باتت الفرقة بيننا هي الأصل وأصبح فتح حوار بين دولتين أو حزبين أو جماعتين في عالمنا العربي ضرباً من ضروب الأماني والخيال، أتحسّر على ما يقوم به البعض من طرح نقاط الاتفاق جانباً وما أكثرها وإقامة نقاط الخلاف والعمل بمقتضاها، وأتحسّرعلى من يخوض صراعات دون تبصّر، ومع كونه رأس حربة فيها يُسفك فيها دمه ويُدمّر فيها بلده، يفاوِضُ عنه غيره ويُقررُ دون موافقة منه أو استئذان. اسقاط أو استبعاد التفاوض من تفكيرنا وممارساتنا أسهم في تراكم مشاكلنا ونزاعاتنا في ما بيننا ومع الآخر، وهو ما تسبب بهدر الأرواح والأوقات والطاقات والأموال، ودفع بمجتمعاتنا إلى الوراء وبشكل ملحوظ. استبعاده جعل البعض يمضي في القتال حتى آخر جامعة ومدرسة وآخرمصنع ومتجر وآخر بيت وآخر طفل وآخر رضيع، دون النظر إلى العواقب وإلى المستقبل ودون الحفاظ على حدّ أدنى من القدرات التي سيحتاج إليها لبناء المستقبل، لقد نسي أن الصراعات في عصرنا هذا غالباً ما تنتهي بحلّ سياسي وانه لن يتمكن أو لن يُمكّن طرف من إلغاء خصمه بشكل كامل، فإذا كانت الحال هي هذه فهل يمكن أن يتم ذلك دون تفاوض، وإذا كان التفاوض أمراً لا مفرّ منه فلم لا يتم العمل على تهيئة الظروف المناسبة للشروع فيه بغية تحقيق أفضل ما يمكن من نتائج؟
يجب أن نتذكّر أن "ما لا يدرك كله لا يترك جلّه"، و"أن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" وهو ما علّمنا إياه رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم. أما الدولة الإسلامية التي أعلن عنها في خضمّ الصراع القائم، فيقول قائل ويتساءل: الدولة كيان سياسي ومن البديهي أن يسأل المرء عن سياسة هذه الدولة عن فكرها عن رسالتها، لماذا تقاتل وإلى أين تريد أن تصل، لم تسعى إلى رفع الظلم، من أجل حياة كريمة أم ماذا، وهل يكفي "اسم الدولة" ومبايعة رأسها وتسمية رئيسها "بالخليفة" لتكون دولة إسلامية؟ ماذا عن وسائلها لتحقيق أهدافها.. أمحصورة هي في القتال أم هناك وسائل أخرى؟
لقد نقلت لنا كتب السنة وكتب السيرة وقائع عدّة حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهمها صلح الحديبية.. لقد فاوض الرسول الأكرم كفار قريش وأبرم معهم صلحاً، وهناك وقائع أخرى نقلها العلماء ومما ذكروه من فوائدها قولهم: (ينبغي قدح الفكر وإعمال الرأي في الحرب بحسب الاستطاعة فإنه فيها أنفع من الشجاعة). إسقاط أو استبعاد عملية التفاوض من خياراتك يتيح لخصمك أن يُعمل فيك القتل والتدمير ويسعى إلى أن تكون عاجزاً عن النهوض في المستقبل فلا تحقق له ما يريد. المشكلة ليست في التفاوض ولا مع من نتفاوض، المشكلة في المفاوض نفسه، فيك أنت.. كيف تنجح.. إذا كانت إرادتك مرهونة أو مقيدة، أوكنت تعتمد في مسيرك على عين الآخر وفكره، حينها سترى مصلحة ذلك الآخر قبل مصلحتك، وإذا ما ثارت فيك الحميّة يوماً وأردت أن تتصرف بواقعية وأن تعمل ما يُصلحك وجدْت نفسك كمن عاش في الظلمة طويلاً ثم رأى الشمس في رابعة النهار فاختلّت رؤيته، أو كحمار الرحى يدور دون توقف ثم يدور ويدور..حتى تخور قواه فينهار ويسقط. فقْد الجماعة للواقعية وللإرادة يشبه فقدان الفرد لأهلية التصرف، مع الفارق الكبير في الضرر الناتج عن الحالتين، فإن فقدان الجماعة للأهلية يدفعها إلى ارتكاب أخطاء كبرى؛ كأن تفقد التفريق بين ما هو ثابت ومتغير في حياتها، فتضيع بذلك هويّتها وتنحرف عن أهدافها وتختلط عليها الثقافات وتتحكم فيها الأهواء. أو تفقد القدرة على ترتيب الأولويات، فتضيع من بين يديها الفرص ويفوتها تحقيق الأهم من الأعمال. أو تفقد القدرة على التمييز بين العدو والصديق، فتبدّد قواها وتخسر السند وتُسعد برعونتها عدوّها. أو تفقد التمييز بين ما هو مصحلة لها أو ضرر عليها، فتكون ممن يخربون بيوتهم بأيديهم. فقدان الجماعة للأهلية - أي الواقعية والإرادة - سيُجهض أي عملية تفاوض معها؛ سيأخذ منها خصمها ولا يعطيها، سيجعل من التفاوض معها احتفالية لالتقاط الصور وخبراً تعجّ وتضجّ به وسائل الإعلام تحت مظلة يقال لها عملية سلام أو مؤتمرات تحمل اسم مناطق وبلدان. المشكلة فيك "أنت" لا في التفاوض، ومن يملك القدرة والإرادة يمكنه أن يتفاوض مع أي طرف آخر وأن يبرم اتفاقاً معه ولو كان هذا الآخر هو الشيطان الأكبر. |
* لسنا بصدد الكلام عن الأعمال والوسائل التي تمّ إعتمادها للوصول إلى هذه النتيجة فاقتضى التنبيه. |